لا تزال قضايا النساء وحقوقهنّ “تابو” في الإعلام، لا بل إنّ الصحافيين الذين يغطّون قضايا المرأة والجندر يتعرّضون لانتهاكات واسعة لحقوقهم، تؤدّي في بعض الأحيان إلى مقتلهم. تلك نتيجة دراسة توصّلت إليها منظّمة “مراسلون بلا حدود”، في تقرير أصدرته أول الشهر الحالي، تزامناً مع اليوم العالمي للمرأة. رصدت المنظّمة، منذ العام 2012 وحتى العام 2017، انتهاكاتٍ بحقّ 90 صحافياً في عشرين دولة، لمجرّد أنّهم تجرّأوا على تغطية قضايا حقوق النساء. قُتل 11 صحافياً من هؤلاء، وسُجن 12، بينما تمّ الاعتداء جسدياً على 25 منهم، فيما لا يزال يتلقى 40 منهم، على الأقل، تهديداتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي. وعندما تكون الضحايا من النساء، تكون الاعتداءات أكثر فتكاً، وغالباً ما تأخذ بعداً جنسياً.
هذا تحديداً ما تُعانيه الإعلاميات في العالم العربي. ففقط لأنّهنّ نساء، يستفحل “معارضوهنّ الرأي” في التهديدات والشتائم والتدخل في الحياة الشخصيّة. ولعلّ ما حصل مع الإعلاميّة ليليان داود، أخيراً، يعد دليلاً واضحاً على ذلك. وعلى الرّغم من ترحيلها من مصر بسبب برنامجها “الصورة الكاملة”، واتّهامها بأنّها “تعمل ضمن خلايا لقلب نظام الحكم”، لم تسلم من التهديدات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تزال مستمرّة حتى اللحظة. وعن ذلك، تقول لـ”العربي الجديد”: “كنت أقوم بعملي بمهنية، ومجرّد استضافة شخص يتحدّث عن المشاكل الموجودة في البلد، كان ينظر إليها كنوع من العداء تجاهه، ويتم وضعي على اللائحة السوداء. أنا مع ثورة 25 يناير، لكني كنت موضوعية. أوقفوا برنامجي ورحلوني من مصر. التهمة كانت انتهاء صلاحية إقامتي في البداية، وبعدها أنني ضمن خلايا تعمل لقلب نظام الحكم”.
تقدّم داود حالياً برنامج “بتوقيت مصر” على “التلفزيون العربي”. بيد أنّها تتعرّض لمضايقات كثيرة، وبمعظمها من قبل المصريين وبعض اللجان السعودية. وغالبية “الاعتراضات” تركّز على استمرارها في الحديث عن الشأن المصري حتى بعد طردها من البلد. بما أنّ برنامجها يتناول أوضاع مصر الحالية واعتقال الناشطين وحملات الإعدام والاختفاء القسري. وتضيف داود “كانت هناك حملات تشويه واتّهامات بالعمالة والتمويل وشتائم. جميعنا نتعرض لحملات تشويه، لكن دائما يتم التهجّم على المرأة من ناحية الأنثى فيها، مثل تشويه سلوكها أو الاستهزاء بشكلها أو التهكّم على أخلاقياتها، هذه نواح تطاول المرأة وحدها. وهناك كلام سيئ للغاية ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة على تويتر”.
تقول ليليان إنّها باتت تتوقع التعليقات والحملات ضدّها، وهي عندما تقرأها في البداية لا تتأثر، لكنّ الأثر الحقيقي النفسي يظهر بعد أيام، عندما تشعر بالإرهاق النفسي والقلق من مسألة الاعتداء الشخصي عليها بعد تلقيها تهديدات.
تطاول التهديدات أيضاً ابنة ليليان. وتقول الإعلاميّة إنّ تناول ابنتها في التعليقات يؤذيها أكثر من غيرها، خصوصاً تلك التي تنكر أصولها المصرية، وأنه من حقها أن تعيش في بلدها.
تؤكّد ليليان داود أنّ جميع المذيعات النساء عرضة للهجوم أكثر من الرجال. وتضيف “أعتقد أن هذه القضية عالمية، لكنّها في العالم العربي قد تكون بوتيرة أكثر كونه يلقى صدى أكبر لدى الرأي العام، حيث ترتبط الحياة الشخصية للمرأة وسمعتها بعملها وقواعدها المهنية، وإلّا حوسبت. كالهجوم عليكِ كونكِ مطلقة واعتبار ذلك نوعاً من الإهانة”.
الحملات نفسها تقريباً، تتعرّض لها الصحافية اللبنانية ديانا مقلد، وهي ترى أنّه مع ازدياد حجم الحريات على مواقع التواصل الاجتماعي يزداد عدد التعليقات الذكورية. وتقول لـ”العربي الجديد”: “من خلال تجربتي في السوشيال ميديا، مررت في عدة مراحل. في البداية كنت أُصدم بحجم العدائية والشتائم والمواقف الذكورية العنيفة التي كانت تصلني أحياناً جراء تعليق أو موقف قلته عبر مواقع التواصل. في مرحلة لاحقة بتّ مترددة جراء احتمال التعرض لحملات فيها الكثير من البذاءة وشبه خالية من النقاش والحوار ولو كان قاسياً. أما حالياً، فصرت لا أبالي. حين أقول رأياً لم أعد أزعج نفسي بالتعليقات. وأي شخص يتجاوز حدود النقاش فيرد بشتيمة أو بتعليق جنسي أو ببذاءة، أعمد فوراً إلى حظره، حتى لو استغرق الأمر مني أحيانًا وقتاً طويلاً. لكني قررت أن لا أجعل صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي مساحةً متاحة للشتامين. أواصل قول رأيي وقناعاتي ولا أتوقف أبداً”.
وعن ازدياد مساحة الحرية لتعبير المرأة عن رأيها، تقول مقلد “مواقع التواصل الاجتماعي أعطت مساحات تعبير واسعة للجميع. وحتماً تمكّنت النساء من الاستفادة من هذا الأمر. إذ نشاهد الكثير من الناشطات والمؤثرات اللواتي شرعن بنشر آراء ومواقف لم يكن متاحاً التعبير عنها بهذا الشكل. وهنا طبعاً تتداخل الآراء ما بين التقليدي والمتحرر. والسوشيال ميديا أعطت مساحات حرة فعلاً، لكنها في كثير من الأحيان مساحات فوضوية وهذا جزء من طبيعتها”.
أما في ما يخصّ تعرض المرأة لضغوطات وحملات تمنعها من الكتابة، فتؤكد مقلد أنّه “بالمطلق هناك ضغوط ورقابة تمارس علينا كأفراد، سواء أكنا رجالاً أم نساء. فنحن نشهد حالات توقيف لأشخاص عبروا عن آرائهم على السوشيال ميديا. البعض خسر عمله، فيما آخرون دخلوا السجن أو تعرضوا لهجمات ومضايقات أيضاً من خلال حملات تشهير عبر السوشيال ميديا وأحياناً عبر الإعلام. مثل هذه الضغوط تصبح مضاعفة بالنسبة للنساء، لأن أي حملة انتقاد أو تشهير تطاول امرأة فهي تنحو غالباً نحو الشتم والموقف الذكوري العنيف”.
وبالنسبة لدور مواقع التواصل الاجتماعي في عملية مصادرة حقوقها وسلب حرياتها، تقول: “تلعب وسائل التواصل الاجتماعي هنا دوراً مزدوجاً، فهي من جهة وسّعت هامش النقاش ومساحات التعبير، لكنها من ناحية ثانية وسعت أيضاً هامش التشدد والثقافة المهينة للمرأة من خلال نشر تعليقات ومواقف سلبية ونمطية ضد النساء. مجدداً هي مساحات تغلبها الفوضى، لكنها بالتأكيد أفضل من القمع والتضييق. الفوضى هذه أتاحت مساحات لكثيرات لم يكن لديهن صوت. ورغم كل الأصوات النشاز تبقى تلك المنابر متنفساً للنساء”.
وفي العالم العربي تحديداً، تضيف مقلد، “لا أعتقد أنّ هناك تطوراً في المجتمعات العربية، فنحن نشهد أسوأ لحظاتنا بسبب الحروب والانقسامات.. ونعيش يومياً كيف تدفع النساء ثمناً باهظاً جراء تلك الحروب ونشهد محاولات تقويض مكتسبات النساء التي لا زالت محدودة وتحتاج إلى الكثير من العمل والتطوير”. وتتابع: “برأيي طالما أنه لا توجد في الدول العربية قوانين مدنية تساوي بين النساء والرجال في كل مجالات الحياة، فسنبقى نراوح مكاننا. هناك دول حققت تقدماً قانونياً، مثل تونس، لكن في دول أخرى لا تزال النساء بعيدات عن المساواة”.
أما عن تعاملها مع الشتائم والتعليقات الذكورية، فتختم ديانا قائلةً: “لم تعد تلك الشتائم تهمني، لأنني ببساطة لا أراها.. ما إن أجد تعليقاً يبدأ بكلمات بذيئة لا أكمل القراءة وأبادر إلى حظر كاتبه أو كاتبته. والمفارقة أنّ هناك أيضاً تعليقات بذيئة تصدر من نساء وفتيات. نحن لا زلنا لم نعتد على الحوار وهو يمكن أن يكون حواراً حاداً وقاسياً، لكن ما يحصل مع كثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي هو التعبير عن إحباطات وضعف حجة يجري الاستعاضة عنها بالشتيمة، خصوصاً ضد النساء. باتت الهجمات ضد إعلاميات وسيدات ناشطات في الحقل العام واحدة من الآفات التي اقترنت بمواقع التواصل الاجتماعي، لكن أعتقد أنّ هذا لا يجب أن يدفع النساء للانكفاء. كان يمكن أن تدفعني تلك الحملات للانكفاء والانزواء، لكني اخترت عكس ذلك تماماً”.
وتعرّضت الإعلامية اللبنانية جيسيكا عازار (أعلنت ترشحها للانتخابات النيابية المقبلة) لحملةٍ ضدّها، أخيراً، على مواقع التواصل أيضاً. تعتبر عازار، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنّ مساحة حرية التعبير للمرأة ازدادت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ترى أنّ المرأة، لكونها امرأة، تُهاجم بطريقة مختلفة عن الرجل. وتقول “عندما تحدثّت بالسياسة هوجمت بـ”الشرف”، فالهجوم الشخصي أمرٌ تتعرض له المرأة أكثر من الرجل”.
وعن التعليقات الذكورية التي تصلها من مواقع التواصل الاجتماعي مع كل حملة تشن عليها تقول: “ستبقى هناك تعليقات ذكورية لأن هناك ثقافة لمجتمع كامل علينا تغييرها ليتم تقبل المرأة على أنها نصف المجتمع وليس فقط في الكلام، بل بالفعل. وأنّ لها رأيها وتستطيع أن تتكلم بالمواضيع السياسية وأن تتعاطى الشأن العام”. وتضيف: “هناك بعض التعليقات الذكورية التي لا نستطيع التغاضي عنها، لذلك نلجأ الى الطرق القضائية في حال التعرض للشخصي. ولكن أنا لا أرد على الشتائم ولا أعطيها أهمية كبيرة، بل أعتبرها تخلفاً، والتخلف لا يمكن أن نحاربه بتخلف، بل بعقل كبير. وكل تعليق ذكوري أرد عليه بإصرار أكبر على النجاح”.
وتضيف “بتنا نرى المرأة العربية تشغل مناصب عالية. وفي لبنان، أكثر من 100 امرأة ترشحن للانتخابات، بينما ترشحت في الانتخابات السابقة 15 امرأة فقط، وهذا يبين مدى تشجّع المرأة على أخذ المبادرة. وتضيف: “لكن ما زلنا في أول الطريق ولكننا تخطينا مسافة كبيرة ولكن بدأنا بالتحسن بشكل كبير عما سبق”.
تعتبر عازار أنّ حريّتها على مواقع التواصل غير مسلوبة، وتقول “ننشرعلى مواقع التواصل الاجتماعي ما نريده، بمعنى أننا نختار ما نريد إعلانه عن حياتنا أو تركه من مواضيع خاصة، ونحن اللواتي نختار إن كنا نريد أن ندخل الناس في حياتنا الخاصة أم لا”.